بقلم عبد الامير المجر
في إطار الحملة الاعلامية والثقافية على العراق، والتي انطلقت بشكل غير مسبوق، منذ تسعينيات القرن الماضي، صدرت في الخارج، كتب عدة، تمحورت حول موضوعة واحدة، هي ان العراق دولة مصطنعة او مخترعة، تشكلت على خلفية الحرب العالمية الاولى، وان شيئا اسمه العراق لا وجود له في السابق. وانطلاقا من هذه “المسلّمة” التاريخية، فان الحديث عن عراق واحد، هو شكل من اشكال العبث، وان هذه البقعة الجغرافية “المصطنعة” يجب ان تفكك، او هذا هو بالضبط الهدف من وراء تلك الحملة المسعورة، التي يراد منها تهيئة المناخ النفسي لتقبل التقسيم، وهذا ما جرى العمل عليه بعد الاحتلال الاميركي في العام 2003.
مبدئيا، نقول، ان العراق بجغرافيته الحالية، اصبح دولة، مطلع القرن الماضي، شأنه شأن المئات من الدول الحديثة، التي ظهرت بعد الحرب العالمية الاولى او الثانية. وهذه الحقيقة لا تعدم حقيقة اخرى، هي ان الشعب الذي يعيش على هذه البقعة الجغرافية لم يأت اليها مهاجرا او منفيا من بلدان اخرى، ليسكن ويشكّل دولته او يشكّلها له الاخرون، وانما كان وما زال هو نفسه من عاش ويعيش على هذه الارض، ومنذ الاف السنين.
وقد شهد هذا الشعب تحولات ثقافية وسياسية عديدة، اسهمت في تكوين بنيته الديموغرافية بالصورة التي هي عليها الان، وان مراجعة سريعة لتاريخ العراق، الذي يتفق عليه جميع المؤرخين والباحثين والآثاريين الكبار في العالم، تعطينا دليلا على ان الحضارات الرافدينية الكبرى التي عرفها العالم، شهدت تحولات ثقافية، وتحوّل معها السكان وفقا لمعطيات كل مرحلة من مراحل تلك الحضارات، التي بدأت بالسومرية في جنوب العراق، مرورا بالبابلية والاكدية وانتهاء بالاشورية، في شمالي العراق، قبل ان يأتي الاسلام، ويقعّد ثقافة العراقيين وغيرهم في الامصار الاخرى، وفقا لثقافته المعروفة، بينما ظل بعض العراقيين محتفظين بثقافاتهم ودياناتهم الاولى، كالصابئية واليهودية والمسيحية، وغيرها من الاديان التي تعايشت على ارض العراق منذ القدم.
فالعراقيون الوثنيون في الحضارات الاولى، هم آباء واجداد العراقيين الصابئيين والمسيحيين النسطوريين لاحقا، ومن ثم المسلمين بعد ظهور الاسلام. وان التعدد الثقافي هذا مرّ وما زال يمرّ على مختلف شعوب المعمورة، كونه جزءا من الحراك الثقافي الازلي الذي تعيش تحولاته البشرية كل يوم.
وكلّ من يقرا تاريخ الامم، لاسيما التي وردت في كتاب “قصة الحضارة” لوول ديورانت، يعرف ان تاريخ البشرية قائم على التعدد الثقافي، تجاوزا او تجاورا، والذي تملي تغيراته المستمرة ظروف، تستجد مع تجدد الجدل حول قضايا الفكر واللاهوت والسياسة والاقتصاد وغيرها، وان الامم الخاملة والمنفية تاريخيا هي من لا تتجدد ولا تتغير ثقافتها، ومثال ذلك القبائل البدائية المعزولة في مجاهل افريقيا واميركا اللاتينية.
الشيء اللافت للانتباه، ان العراقيين، اليوم، وبالرغم من تعدد ثقافاتهم الدينية والمذهبية، الاّ انهم يلتقون في مفردات لغوية قديمة، غير عربية، يتداولونها من الشمال الى الجنوب، وان الآثاريين يعزون ذلك الى ان كل حضارة آفلة في العراق القديم حين تسقط دولتها لصالح دولة اخرى، او حضارة اخرى، داخل بلاد الرافدين، فانها تبقي الكثير من خصائصها الثقافية وعلى مختلف المستويات، في عقول ونفوس الناس، الذين سينتقلون لمرحلة جديدة وثقافة جديدة، تتشكل مع تشكل الواقع الجديد، وان هذا الحراك الطويل، جعل “لهجات” العراقيين من ابناء الاديان المتعددة، تتداخل فيها الكثير من المفردات اللغوية القديمة، وكذلك تتداخل بعض اشكال ممارساتهم وشعائرهم الدينية الى حد كبير.
حدثني صديق لي (مسيحي) من قصبة القوش المسيحية في الموصل، ان لهم ابناء عمومة هناك، لكنهم مسلمون، وهذا الامر طبيعي في حياة العراقيين، اذ ان كثيرين من المسلمين من الارومة الواحدة، يتوزعون بين المذهبين الاسلاميين، مثلا، ولا شيء غريبا في هذا الامر، بمعنى ان اعتناق ثقافة معينة من قبل اية جماعة او حتى من قبل الفرد الواحد، لا يلغي صلته الاجتماعية بمن خرج عنهم، او اعتنق غير دينهم او مذهبهم.
يذكر المؤرخ العراقي المعروف سيار الجميل، في مقال نشره في جريدة الصباح البغدادية، قبل سنوات، ان الانكليز عندما احتلوا الموصل، ليكملوا احتلال الولايات العراقية الثلاث، البصرة وبغداد والموصل، اعتمدوا على خريطة العراق القديم التي تتضمن ولاية الموصل بصفتها جزءا من العراق القديم والعراق الاسلامي والعراق الحديث، وبقيت كذلك في اطار العراق المعاصر ايضا.
الشيء الجدير بذكره كمقاربة، ان من يطالع خارطة اوروبا قبل الحرب العالمية الاولى، سيجد الكثير من الامارات والدوقيات والاقليم متعددة المسميات، غير المعروفة الان، ومن يقرأ تاريخ اوروبا الحديث ايضا، سيجد ان حروبا طاحنة، دارت بين هذه الامارات والدوقيات ولاسباب تافهة، وان كثيرا من المسميات الحديثة للدول القائمة حاليا لم تكن موجودة، وقد ظهرت بمسمياتها الجديدة هذه بعد الحربين، كنتيجة للحراك السياسي والحروب، فهل ان شعوب هذه الدول لم تكن تسكنها اصلا، وجاءتها مهاجرة بعد تسمياتها الجديدة؟
العراق، وان لم تقم على ارضه من قبل دوله باسمه هذا، لكن ارضه كانت تسمى بهذا الاسم منذ القدم، وان اسمه الجديد في اطار دولته الحديثة، هو استحقاق تاريخي وثقافي، وهذه حقيقة غير قابلة للطعن والجدال.