قارئة العيون الكاتب: حسن العُقيلي

     

    أسير هائما على وجهي، منعزلاً عمن حولي، في طريقي إلى العمل في هذه الأثناء وقبل أن أبدأ بالعمل المعتاد ابدأ يومي بكوب من الشاي على الريق، لم أعتَد أن أفطر في البيت لأني لا أود إيقاظ أمي من النوم في الصباح الباكر. أرتدي ملابسي وأذهب للعمل، بعد أن أتناول الشاي في المقهى القريب. وفجأة … رن جرس الهاتف
    نعم، قالت: أنا موظفة عيادة الأسنان، اليوم موعدك مع طبيب الأسنان عند الساعة الرابعة عصرا.
    قلت لها: شكرا لكِ، ومن ثم أكملت عملي.
    عدتُ إلى البيت، غيرت ملابسي وارتديت نظاراتي، ثم إلى الباص متوجها إلى عيادة الأسنان،
    تذكرت أني نسيت قطعة القماش التي أنظف بها عدسات النظارات، وصلت الى العيادة عند الرابعة والنصف متأخراً نصف ساعة،
    جلس انتظر دوري، أخرجت الهاتف وبدأت أقرأ، لكني لاحظت بعض التراب يغطي عدسة النظارة، نظرت لمكتب السكرتيرة فلم أجدها في مكانها، نظرت نحو اليمين وجدت قناة عشرينية ترتدي جبة زيتونيه وتمسك بهاتف كبير الحجم تقرا فيه، تجلس على كرسي بلاستيكي منعزلة قدر الإمكان عن ضوضاء العيادة.
    كان وجهها مألوفا لي، شاحباً بعض الشيء، رأيت في ملامحها الكثير من الصلابة والهشاشة معا، رأيت حربا لم تبدأ ولم تنتهي، عيون مثقلة، صراع بين ضمير يريد التوبة ونفس تريد السلام
    قلت في نفسي لا تطلب منها منديلا، حافظ على عزلتها وجمال صمتها، تركت الهاتف بجانبي وخلعت النظارات الفلترة، لم أشعر إلا وشخص وقف أمامي فجأة نظرت لأعلى وجدت تلك الفتاة العشرينية المنعزلة كأنها قطرة زيت في كوب ماء، لا تحب أن مخالطة إلا من يفهمها ويحس بتفاصيل روحها.
    قالت مبتدئة: مساء الخير أيها السيد الفاضل، شعرت بأنك تبحث عن منديل تنضف به عدسة النظارة.
    قلت لها وأنهار الفضول تدفعني نحوها: نعم يا ست.
    فقالت: نور، اسمي نور.
    فقلت: شكرا يا نور
    ومن ثم جلست في مكانها تقرأ في الهاتف

    في هذه الأثناء خطرت لي فكرة أن أجري معها حواراً، ولكن سرعان ما جاءت السكرتيرة فقالت: حان دورك، تفضل.

    قلت في نفسي: لا أريد ان أدخل، بل أريد مجالسة هذه الفتاة الغريبة، أود أن أعرف عنها ولو الشيء القليل

    دخلت غرفة العلاج ووضع لي الطبيب المخدر، ثم قال: انتظر في الخارج حتى يبدأ مفعول التخدير
    خرجت فلم أجدها
    قلت للسكرتيرة: اين ذهبت تلك الفتاة العشرينية التي كانت تجلس ها هنا؟ قالت: خرجت، كانت تنتظر التحايل ثم ذهبت.
    خرجتُ نحو الشارع وقد بدأ فكي السفلي يتخدر

    وجدتها عند بائع الخبز، وقفت خلفها وقلت: هل لي أن نشرب كوب شاي سويا؟
    نظرت إلى ثم قالت: لا بأس.

    صرنا نمشي في المدينة، وحل الغروب، وأثناء مسيرنا إلى إحدى المقاهي جاءها أتصال فقالت للمتصل: أنا سأتأخر،
    بعد ذلك جلسنا في المقهى، قلت مبتدأ: كيف عرفتِ أني محتاج إلى قطعة قماش امسحُ بها عدسة النظارة؟
    فقالت والابتسامة تملأ وجهها: ولكن أنا أعرف أكثر من ذلك

    فقلت لها: كيف؟

    قالت أنا أقرأ عيون من حولي وأعرف كل ما يجول في دواخلهم!

    فقلت لها: وأنا كل جوارحي تصرخ بالفضول للمعرفة، إذاً، أخبريني ماذا قراتِ في عيوني التي تظهر أمامك ِ؟
    قالت بعد أن أخذت رشفة من فنجان القهوة التي طلبتها من صاحب المقهى: الحدة أول شي لاحظته، العودة بعد الكسر، ولاحظت القوة المبنية من تجربه، وهي برأيي أقوى أنواع القوة كونها نابعة من الداخل للخارج وليس العكس.

    فقلت: وبعد، أكملي!

    ملامحك قاسية بعكس الرحمة التي تحملها واللطف، (فيك جروح عميقه كلهن نابعات من ثقتك العميقة بالمحيطين)

    عيونك جميله، عميقه، حزينة، مكسورة، متلمه، باحثه عن شفاء لروحك بين صفحات الكتب وبين مقالات الانترنت، عسى ولعلك تجد ضالتك، تتمنى الكتابة لكنك تتوقف في المنتصف ولا تكملها، ألا يقال إن العيون باب الروح؟

    ارى في روحك حب السهر وعدم تضييع الوقت والاستفادة منه لكنك عندما تفعل عكس ذلك تتأذى

    هنا خيم الصمت المصحوب بالتفكير العميق حول هذه الكلمات التي تنطق بها هذه الفتاة
    قلت لها: أكملي.

    فقالت
    انت دوماً باحث عن تطوير نفسك من خلال مراقبه تصرفاتك دلكنك متعجل وتخطئ وتتألم فتعاقب نفسك بالابتعاد والجفاء، لكنك تحمل قلبا طيبا لا تستطيع معه الحقد، فتعود مجدداً وكأن شيئاً لم يكن

    تتظاهر بالقسوة والحدة في الملامح لتخفي ضعفك الداخلي (طفلك الداخلي) ولتحمي طيبتك من الاستغلال كما نسميها.
    قلت: لا بأس أن يحافظ المرء على الجانب الطفولي الذي في داخله مثل المرح وحب الأشياء الصغيرة، والأشياء السخيفة في نظر البعض، فهذه الأشياء تتعلق بالروح
    وليس بالجسد، فالنفس تحب أن تلعب قليلا أو تمارس هواية ما، إنها متطلبات الرواح وهي عكس متطلبات الجسد من تناول الطعام والشراب وغير ذلك والتي تعد أمورا ضرورية، أكملي.
    قالت: إضافة لذلك، أنت شخص كتوم جداً جداً، يبدو أنك مصدوم من مشاركه تفاصيلك فاتخذت موقفاً وهو السكوت والكف عن البوح بأسرارك الصغيرة والكبيرة
    قالت: يكفي بهذا القدر، ولكن هناك المزيد إذا احببت
    ولكن تأخر الوقت، ونهضت كي تذهب

    قلت لها شكرا على هذا الحوار العميق، أنتِ فعلاً قارئة العيون.
    ابتسمت وذهبت.
    والآن أقول: كيف يمكن لشخصٍ أن يعرف تفاصيل دقيقة عن شخصٍ آخر بمجرد أن ينظر لعينيه!
    ما سر هذه الطاقة التي يتمتع بها بعض البشر؟! حقاً إنها نوع من أنواع الإعجاز.
    ولكن وكأن صوتا من أعماقي يقول: من الجيد أن تبقى دون علم بما يحدث، فالمعرفة أحيانًا حزن، (ولا أعرف أين ما هذا الحزن).
    وبعد إن دفعت حساب المقهى خرجت أمشي وقد بدأ المطر يتساقط.
    قلت بصوت يسمعه كل من يمر حولي:
    كُل الحّزن الذي تؤجل الشُعور بِه يّتسرب منك مِن حيثُ لا تشعر، يتعبك في الطريِق، يهبط عليّك مع المطر، يتنكر في وجُوه أحبتك،
    وكُل الأفكار التي تهرب منها ستنفرد ِبك في الليل، وستجعل وسادتك من حجر،
    كُل ما لم تَصبر علّيه لن يصبر عليك ولن يُعطيك فرصة التَخطي.

    شاركـنـا !
    
    التعليقات مغلقة.
    أخبار الساعة