ما إن بدأت العملية الإرهابية وما رافقها من محاولات اختراق الحدود الروسية من جانب القوات المسلحة الأوكرانية بتشكيلات عصابية مدججة بأحدث الأسلحة الغربية، ومسترشدة بتفصيلات دقيقة ومعلومات استخباراتية وبيانات من الأقمار الصناعية العسكرية لحلف “الناتو”، في مناطق سكانية مدنية رخوة، حتى امتلأ الفضاء الإعلامي بتساؤلات كثيرة واجتهادات متنوعة في تفسير وتحليل ما حدث.
وبينما تقع كثير من وسائل الإعلام العالمية والعربية تحديداً، وكذلك وسائل التواصل الاجتماعي، تحت تأثير الهيمنة الغربية، ساد لدى كثيرين اعتقاد بأن الحدود الروسية تم اختراقها، وأن الدولة الروسية “عاجزة” عن حماية حدودها، وأن الأجهزة الأمنية وعلى رأسها وزارة الدفاع الروسية “قصّرت” في أداء واجبها لحماية الحدود الروسية والأمن القومي الروسي في ظل انشغالها بسير العملية العسكرية الروسية الخاصة بأوكرانيا، وبالتالي “لم تتمكن من التنبؤ مسبقا والتحضير لمكافحة عملية إرهابية بهذا الحجم والتوقيت”.
وتضاربت الاجتهادات الصحفية والإعلامية وتبارت التلفزيونات والأجهزة الاستخباراتية في سرد رواية تخدم أجندة الهيمنة الغربية مفادها أن أوكرانيا “ألحقت هزيمة بروسيا”، وأن هناك ما أسموه بـ “انقسام في المجتمع الروسي”، و”عدم رضا وتذمر من جانب الشعب الروسي إزاء السياسة التي تنتهجها القيادة الروسية”.
على الجانب الآخر، ظهرت شخصيات روسية داخل البلاد، وعلانية في وسائل الإعلام الروسية تدعو إلى الانتقام من النظام في كييف باغتيال قيادات، وضرب سدود، وسكك حديدية، وبنى تحتية، وتساءل البعض عن الهدف من “صبر” موسكو على الغرب، وعدم القيام بضرب المصالح الغربية في عقر دار النظام النازي في كييف.
لهذا السبب، وجدت أن من واجبي أن أوضح للقارئ العربي والروسي على حد سواء أن كل ما يحدث حولنا هو جزء من حرب هجينة، ومعركة إعلامية ضخمة، تندرج تحت بند الحرب النفسية الموازية للعملية العسكرية الروسية بأوكرانيا، والتي يلعب فيها النظام الأوكراني العميل دور الدمية التي يحركها الغرب كيفما شاء، وقتما شاء، وفي أي اتجاه يشاء. فالتمويل والتدريب والسلاح والذخيرة غربية، ولا يشارك النظام في كييف سوى بدماء الشعب الأوكراني التي يتاجر بها، ويبيعها للغرب بأبخس الأثمان مقابل ألا يدفع الغرب بأبنائه إلى أتون المعركة، وقد قالها زيلينسكي، الرئيس المنتهية ولايته، صراحة: نحن نحارب من أجلكم. بمعنى أنه يزج بأبنائه بدلاً من أن يزج الغرب بأبنائه. هكذا المعادلة بكل وضوح.
والغرب يهدف من حربه ضد روسيا ليس فقط تشويه سمعة روسيا، وإظهارها بمظهر الدولة “العاجزة” عن حماية حدودها أمام العالم، وإنما يهدف، وبشكل أساسي، أن يؤثر على المجتمع الروسي داخلياً لضرب ثقته بالقيادة، وزعزعة استقراره من الداخل، فهزيمة روسيا لا تأتي أبداً من الخارج، وإنما فقط من الداخل. وتلك استراتيجية الغرب منذ تفكك الاتحاد السوفيتي. ويحدث ذلك، بطبيعة الحال، وكما ذكرنا في مقالات عدة، بهدف عرقلة انتقال العالم من هيمنة القطب الواحد، إلى عالم التعددية القطبية.
أما ما حدث على أرض المعركة، وانطلاقا من خبرتي العسكرية، حيث أنهيت دراساتي العسكرية في الأكاديميات العسكرية السوفيتية، فقد اتخذ قرار تنفيذ العملية الإرهابية الأوكرانية خلال 24 ساعة من بدء العملية فحسب. وأرسلت حينها ثلاثة كتائب من ثلاثة ألوية مختلفة من ضمن فرقتين تابعتين للقوات المسلحة الأوكرانية، تم تدريبهم وتجهيزهم بأحدث الأسلحة والمعدات الغربية على مدى الأشهر الست الأخيرة، وزودوا بالطبع بمعلومات استخباراتية وبيانات من الأقمار الصناعية العسكرية لحلف “الناتو”.
وصلت تلك الكتائب الثلاث على دفعات إلى ثلاثة مناطق تجمع بالقرب من حدود منطقة كورسك الروسية، وعلى بعد 10-15 كلم عن الحدود، ولم يكن قادة هذه الكتائب على علم حتى تلك اللحظة بما ينتظرهم من مهام، وأبلغوا بأنهم سيقومون بمناورات وتدريبات على الأسلحة والذخائر الحية. بعد وصولهم تلك الأماكن بخمس ساعات، أبلغوا بالمهام القتالية، وتلقوا أوامر بمهاجمة حرس الحدود الروسي، واختراق الحدود الروسية من ثلاث مناطق، تبعد كل منطقة عن الأخرى بحوالي 10 كلم، وكانت كل كتيبة مزودة بحوالي 6-8 دبابات، وحوالي 15 مدرعة، إضافة إلى عربات المدفعية وغيرها من الأسلحة. وفي نفس التوقيت صدرت الأوامر إلى الألوية الثلاثة التي تنتمي إليها هذه الكتائب بالتقدم باتجاه الحدود الروسية لمنطقة كورسك لإسناد كتائبها التي اخترقت الحدود الروسية، لتصبح القوة المهاجمة فعلياً ثلاثة ألوية.
وقد اختارت قيادة العملية الإرهابية، وهو السبب الرئيسي في وصفها بـ “الإرهابية”، المناطق الروسية الثلاث، استنادا لوجود التجمعات السكنية المدنية بها، اقتداء بنفس تكتيكات تنظيم “القاعدة” و”داعش” الإرهابيين، وحتى لا يستطيع الجيش الروسي الزج بقوات نظامية للقضاء على تلك الكتائب الأوكرانية المتسللة. ذلك أن القوات الروسية، والقيادة الأوكرانية النازية تعلم ذلك، لن تفعل ذلك تفادياً لوقوع ضحايا بين المدنيين.
وكان ذلك بالفعل ما حدث، أعلنت القيادة الروسية عملية “مكافحة الإرهاب” بالمنطقة، وبدأت في التعامل مع القوات الأوكرانية بمشرط الجرّاح، وكلفت قوات أمن الدولة وحرس الحدود والقوات الخاصة بالتعامل مع تلك القوات المدججة بأسلحة “الناتو” (وسمعنا بريطانيا وكندا والولايات المتحدة وغيرها بينما تسمح للقوات الأوكرانية باستخدام أسلحتها الموردة لكييف على الأراضي الروسية في انتهاك فج للمواثيق والأعراف الدولية، وتصعيد خطير غير مسبوق بين روسيا و”الناتو”).
قامت روسيا من جانبها بإخلاء تلك المناطق من السكان، حيث تم حتى الآن إجلاء ما يقرب من 150 ألفاً، وخسرت القوات الأوكرانية ما يربو على 2600 من جنودها ومن المرتزقة الأجانب، إضافة إلى 37 دبابة و32 مدرعة.
وتعليقاً على الهجوم، قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إن الهدف من الهجوم هو “عرقلة تقدم القوات الروسية على جبهة دونيتسك”، وأكد على أن الهجوم الأوكراني على منطقة كورسك لن ينجح في تحقيق هدفه، وأن الهجوم على جبهات أخرى سوف تزداد وتيرته بمرة ونصف المرة.
وبالفعل اقترب الجيش الروسي الآن من مدينة بوكروفسك وأصبح على بعد 10 كلم فقط، وهو ما يهدد بقطع إمدادات الجيش الأوكراني في دونيتسك، حينما يتمكن الجيش الروسي خلال الأيام القليلة المقبلة من السيطرة على هذه المدينة الاستراتيجية، ما يهدد بقطع الإمدادات عن الجيش الأوكراني في دونيتسك.
إن هدف المغامرة المجنونة، والهجوم الانتحاري الذي أصدر أوامره الرئيس المنتهية ولايته وصلاحيته زيلينسكي، بإيعاز من “الناتو”، هو كما وصفه رجل الأعمال والمالك السابق لأكبر خدمة استضافة الملفات “ميغا أبلود”، كيم دوتكوم،”إرضاء مضيفه المستقبلي”، حيث وافق زيلينسكي على خطة البنتاغون لأنه يحتاج إلى ملاذ آمن في الولايات المتحدة قريبا، لهذا يتعين عليه أن “يرضي مستضيفه المستقبلي.
لكن أهدافاً أخرى، مستحيلة كما أراها، تطرقت إليها وسائل إعلام ومحللون كثيرون من الشرق والغرب، كانت تتراءى لزيلينسكي، وهي ربما الوصول إلى محطة كورسك النووية، ومبادلتها بمحطة زابوروجيه النووية، وأخرى لتحسين وضع أوكرانيا في المفاوضات التي أصبحت الآن في علم الغيب، وابتعدت كثيراً عما كانت عليه قبل الهجوم الأوكراني على كورسك، وهدف آخر هو الضغط على أوروبا بأنبوب الغاز الوحيد الذي يوفر الغاز لأوروبا في سودجا. لكن كل هذه الأهداف الآن، وبعد صد الهجوم من جانب الجيش الروسي، أصبحت مستحيلة بالكامل.
تساءل كثيرون أيضاً عن السبب فيما أسموه “عجز” روسيا عن حماية حدودها، وهنا أكرر دائماً أن روسيا لم تعلن الحرب ولا تعتزم إعلان الحرب على دولة أوكرانيا الشقيقة، التي تضم أقارب وأصدقاء وشعباً شقيقاً تربطه بالشعب الروسي أواصر الدم والتاريخ والجغرافيا والثقافة والدين، وإنما تقوم بعملية عسكرية خاصة لإزاحة النظام النازي، واجتثاث النازية، ونزع سلاح الدولة التي يعدّها الغرب لكي تكون رأس حربة على الحدود الغربية والجنوبية مع روسيا، وتلك أهمية قصوى للأمن القومي الروسي، وتهدف العملية الروسية الخاصة كذلك إلى الدفاع عن المواطنين الروس، ذوي الهوية والثقافة الروسية، ممن يقطنون في جنوب وغرب أوكرانيا، وعانوا لثمان سنوات (2014-2022) ولا زالوا يعانون من قصف وقمع واستهداف القوات الأوكرانية التابعة للنظام النازي في كييف. وتلك جميعاً، بالمناسبة، كانت أراضي تاريخياً روسية، وانضمت لأوكرانيا بقيام الاتحاد السوفيتي، لظروف إدارية واجتماعية واقتصادية وغيرها.
إن روسيا تواجه اليوم مخططات أمريكية وغربية لاستخدام أوكرانيا في محاولات لاستنزافها وتهديد امنها القومي، ولم يكن بالإمكان تفادي ما حدث من هجوم إرهابي يستخدم نفس تكتيكات التنظيمات الإرهابية الدولية العابرة للحدود، باستخدام الأسلحة الغربية الحديثة، وبالاسترشاد بالأقمار الصناعية العسكرية الغربية، وإذا وضعنا في الحسبان أن روسيا تمتد على سدس مساحة العالم، يمكننا حينها أن نتخيل صعوبة واستحالة أن يتم تفادي مثل هذه العملية الإرهابية التي قامت بها راعية الإرهاب الأولى في العالم الولايات المتحدة الأمريكية.
لهذا السبب فإني أستبعد نهائياً أن يكون هناك أي تقصير من قبل وزارة الدفاع الروسية أو أي من الأجهزة الأمنية ذات الصلة، ذلك أن التنظيم الإرهابي الدولي الذي قام بالعملية الأخيرة كان بقيادة الولايات المتحدة شخصياً، وبمساعدة أجهزة استخباراتية محترفة، مثل تلك التي قامت بتنفيذ نسف أنابيب “السيل الشمالي”.
وبينما قبضت الأجهزة الأمنية الألمانية على أحد المشتبه بهم في تنفيذ تفجير “السيل الشمالي”، الغواص فلاديمير جورافليوف، وبينما بدأ الحديث عن تقديم كبش فداء على مستوى السفير الحالي لكييف لدى لندن، وقائد الجيش الأوكراني السابق، فاليري زالوجني، الذي ينكر أي تورط للجيش الأوكراني في ذلك، فيما تزعم “وول ستريت جورنال” أن زيلينسكي، رفض الخطة، وربما زالوجني مضى قدما في تنفيذها، فإنني أعتقد أن كل هذا لا يمكن أن يندرج تحت بند الصدف القدرية، وإنما يبدو لي، لا سيما بعد فشل الهجوم الأوكراني على منطقة كورسك، والتكهنات بشأن تحوله إلى كارثة محققة للجيش الأوكراني، أن ذلك كله بداية لتفكير الولايات المتحدة والغرب في الحوار مع روسيا، بعد أن ترسخت القناعة لديهم جميعاً بأن روسيا ليست وحدها، ويقف إلى جانبها الصين ودول “بريكس”، سعياً لتثبيت أجواء دولية جديدة تؤمن بالتعددية القطبية وتفعيل واحترام ميثاق الأمم المتحدة وقراراتها، وقيام نظام اقتصادي ومالي عادل، يشارك فيه الجميع بمساواة وعدل، ولا يخضع لأي آليات ابتزاز وتهديد بالعقوبات والحصار لخدمة جهات ما.
إن من يقف وراء العملية الإرهابية في كورسك، ربما يكون هو نفسه من يقف وراء العملية الإرهابية في قاعة “كروكوس سيتي هول” بضواحي موسكو.
وفي ظل تحدي الإرهاب الدولي الذي يواجهه العالم أجمع، تقف كل من روسيا والصين كتفاً بكتف، دفاعاً ليس فقط عن العالم متعدد الأقطاب، وإنما كذلك عن السلام والأمن العالميين ضد الإرهاب الدولي الذي كشف عن وجهه في كورسك، وقبلها في “كروكوس” وفي “السيل الشمالي”، ودفع بأوكرانيا للتضحية بمئات الآلاف من أبنائها لخدمة الغرب ومصالحه وعرقلة مسار التاريخ نحو التعددية القطبية.
يجب أن يثق الجميع داخل روسيا وخارجها بأن حركة التاريخ كما حركة عقارب الساعة، حتمية وفي اتجاه واحد فقط. ومن يحاول الوقوف أمام عجلة التاريخ هو أحمق أو مجنون، وأنا على يقين لا يشوبه أدنى شك أن اعتراف أغلبية دول العالم بالدولة الفلسطينية المستقلة، والذي حدث وكلنا شهود عليه خلال العام الماضي، واعتراف كل الأحرار حول العالم بالجرائم المرتكبة بحق الشعب الفلسطيني، وتغيّر نظرة الكثيرين لإسرائيل وقياداتها المتطرفة وتحالفها مع الولايات المتحدة الأمريكية، سيكون مثالاً حياً لتفهم المجتمع الدولي للدور الذي تقوم به روسيا لحماية أمنها القومي ومواطنيها، ومشاركتها للصين والجنوب العالمي في السعي لمستقبل قريب، وأجواء دولية جديدة تحترم سيادة الدول، وحقها في تقرير مصيرها.