العلاقات العراقية – الأمريكية… بين التحديات والفرص كتب رياض الفرطوسي

لطالما كانت العلاقات بين العراق والولايات المتحدة ساحة تتجاذبها المصالح والتحديات، حيث شهدت تحولات دراماتيكية، من تحالفات استراتيجية إلى توترات حادة. واليوم، يجد العراق نفسه أمام مفترق طرق دبلوماسي واقتصادي وأمني، حيث يتطلب التعامل مع القوى الكبرى نهجاً حكيماً يحقق مصالحه الوطنية دون المساس بسيادته.
إن الحكومة العراقية الحالية، برئاسة محمد شياع السوداني، تدرك أن السياسة الدولية لا تُدار بالعواطف، بل بحسابات دقيقة توازن بين الضغوط والمصالح. لذا، تسعى بغداد إلى بناء علاقات قائمة على الاحترام المتبادل مع الولايات المتحدة، دون أن يكون ذلك على حساب استقلالية القرار العراقي. كما إنها تدرك أهمية الحوار كأداة استراتيجية في التعامل مع واشنطن، حيث يبقى التعاون الاقتصادي والأمني محوراً أساسياً، لكن بشروط عراقية تحفظ السيادة وتحمي المصالح الوطنية. ومن هذا المنطلق، تعمل الحكومة على تعزيز مكانة العراق كلاعب فاعل في الساحة الدولية، يتفاعل بوعي مع التحولات السياسية والاقتصادية الكبرى. العراق، بثرواته الطبيعية وموقعه الاستراتيجي، ليس مجرد تابع اقتصادي لأي قوة، بل يمتلك أوراقاً يمكن توظيفها بذكاء لتحقيق استقلاله الاقتصادي. فبينما تسعى واشنطن لتعزيز نفوذها عبر الاستثمارات والمساعدات المالية، يتجه العراق إلى تنويع شراكاته مع دول الاتحاد الأوروبي والصين ودول الجوار، لتقليل اعتماده على جهة واحدة. لقد بات واضحاً أن الاقتصاد العراقي بحاجة إلى إصلاحات عميقة، ليس فقط على مستوى البنية التحتية، بل أيضاً في مكافحة الفساد وإيجاد بيئة استثمارية شفافة. فالعراق يمتلك كل المقومات ليصبح قوة اقتصادية في المنطقة، لكن نجاحه في ذلك مرهون بقدرته على إدارة موارده بعيداً عن الضغوط الخارجية. لذا، فإن تعزيز الصناعات المحلية ودعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة يعد أحد المفاتيح الأساسية لبناء اقتصاد أكثرإستقرار وتوازناً.
لا يزال الملف الأمني حجر الأساس في العلاقة بين بغداد وواشنطن، حيث لعبت الولايات المتحدة دوراً محورياً في مواجهة الإرهاب، لكن العراق اليوم لم يعد كما كان في السابق. فهو يسعى إلى بناء منظومة أمنية قادرة على حماية أراضيه دون الحاجة إلى وجود عسكري أجنبي طويل الأمد. إن الحوار المستمر بين بغداد وواشنطن حول مستقبل التعاون الأمني يهدف إلى تحويل العلاقة من الاعتماد إلى الشراكة الفنية والتدريبية، مع التركيز على بناء قدرات عراقية مستقلة قادرة على التعامل مع أي تهديدات مستقبلية. كما أن تطوير الأجهزة الاستخباراتية وتعزيز التعاون الإقليمي في المجال الأمني سيسهمان في تعزيز الاستقرار الداخلي. في عالم مضطرب، حيث تتشابك الأزمات من القضية الفلسطينية إلى التوترات الخليجية، يسعى العراق إلى تبني نهج متوازن يجنبه الانجرار إلى محاور إقليمية متصارعة. وهنا، يؤكد العراق موقفه الثابت الداعم لحقوق الشعوب في تقرير مصيرها، مع رفض أي محاولات لفرض حلول سياسية غير عادلة. إن السياسة العراقية اليوم تتجه نحو تعزيز دور العراق كوسيط دبلوماسي بدلاً من أن يكون ساحة لصراعات الآخرين. وهذا يتطلب سياسة خارجية مرنة، تجمع بين البراغماتية والمبادئ الوطنية، لتثبيت موقع العراق كدولة ذات تأثير إيجابي في محيطها. ومن الأمثلة على ذلك جهود العراق في التوسط بين دول الجوار، وتعزيز الحوار بين الأطراف المتصارعة لتحقيق استقرار إقليمي أوسع.
رغم التعقيدات التي تحيط بالعلاقة مع واشنطن، فإن هناك مجالات يمكن أن تُستثمر لتعزيز التعاون، مثل التكنولوجيا، التعليم، والطاقة المتجددة. يمكن للعراق أن يستفيد من الخبرات الأمريكية في تطوير قطاعاته الحيوية، لكن ضمن شروط تحمي مصالحه.
من ناحية أخرى، يبقى الحوار السياسي عاملاً حاسماً في تحديد مسار العلاقة المستقبلية، إذ أن التوترات الناجمة عن تصريحات متطرفة أو سياسات أحادية قد تُعيد العلاقة إلى مربع الأزمات، وهو ما تحاول الحكومة العراقية تفاديه عبر دبلوماسية هادئة ولكنها حازمة. ولعل تكثيف التعاون الأكاديمي والتبادل الثقافي يمكن أن يسهم في تعزيز التفاهم بين الشعبين العراقي والأمريكي، مما ينعكس إيجاباً على العلاقات طويلة الأمد. وفي ظل التغيرات العالمية، يدرك العراق أن مستقبل العلاقات الدولية يعتمد على القدرة على التكيف مع التحولات الجيوسياسية، دون التنازل عن المبادئ الأساسية. فبينما تتغير أولويات الولايات المتحدة بين الإدارات المختلفة، يبقى العراق بحاجة إلى استراتيجية دبلوماسية مستقرة تضمن له حماية مصالحه، سواء مع واشنطن أو مع غيرها من القوى الكبرى. يأتي هذا في وقت تحاول فيه العديد من الدول إعادة رسم خريطة التحالفات الدولية، مما يفتح أمام العراق فرصاً جديدة لتعزيز دوره كمركز تجاري وسياسي في المنطقة. ومن هنا، فإن توسيع آفاق التعاون مع دول مثل روسيا، الهند، واليابان يمكن أن يسهم في تحقيق التوازن المطلوب في السياسة الخارجية العراقية. إن العلاقات الدولية ليست ثابتة، بل هي ديناميكية تتغير بتغير المصالح والتوازنات. والعراق اليوم في موقع يسمح له بإعادة تشكيل علاقته مع الولايات المتحدة وفق أسس جديدة تقوم على الاحترام المتبادل والتعاون البناء. في ظل التحديات الراهنة، يبقى مفتاح النجاح هو الإرادة الوطنية التي تسعى إلى تحقيق استقلالية القرار العراقي، مع الحفاظ على علاقات إيجابية مع مختلف القوى الدولية. فالتاريخ أثبت أن الدول القادرة على تحقيق توازن دقيق بين استقلاليتها وشراكاتها هي التي تضمن مستقبلاً مستقراً ومزدهراً. ومن هذا المنطلق، فإن العراق مطالب اليوم برسم خارطة طريق واضحة لمستقبله الدبلوماسي، قائمة على التفاعل الإيجابي مع القوى العالمية، دون التفريط بثوابته الوطنية. وفي النهاية، تبقى السياسة الخارجية الناجحة هي التي تحقق التوازن بين المبادئ والمصالح، حيث يتمكن العراق من أن يكون لاعباً فاعلاً في النظام الدولي، لا مجرد متلقٍ للقرارات والسياسات الخارجية.