بعد ان أعلن القائد العام للقوات المسلحة د. حيدر العبادي رسمياً تحرير كل العراق من براثن عصابة داعش الإرهابية يأتي سؤال مهم حول ان كان المواطن العراقي يلمس في يوميات حياته فرقا إيجابيا وواضحا بين الامس واليوم؟ ام ان هذا الانتصار افتراضي في أحسن الأحوال، او اننا نلتمس نصرا مؤقتا وقد تعود كرة الإرهاب من جديد، لا سمح الله، بعد بضعة أيام او أسابيع او حتى بضع سنين؟
طبعاً الكثير من الذين يثيرون هذه التساؤلات لديهم كل الرغبة والتمنيات لعدم التعايش مع الإرهاب ويشتاقون الى سلام حقيقي، وانهم من اهتمامهم وتجربتهم المريرة حريصون على معرفة الواقع كما هو، لا كما يحلو لنا. ومن الضروري ألا ننسى اننا شاهدنا وسمعنا بيانات سابقة عن تحرر الارض من المحتل ومن الإرهاب.
سنحاول ان نذكر عشرة متغيرات ضرورية لنعرف ان كنا تعلمنا حقاً من هذه التجربة المريرة ام لا.
اولاً: أثبتت التجربة لجميع العراقيين مع اختلاف خلفياتهم الاثنية أو العرقية او السياسية ان في اتحادهم قوة، وان النصر لم يأت إلاّ بعد ان اتفقوا على محاربة هذا المرض الخبيث معاً وعلى الأصعدة كافة. النصر على داعش هو أفضل وأوضح مثال للعراقيين حول قدرتهم على النجاح في امتحان صعب، وان قوتهم في اجتماعهم وان كانت الظروف صعبة والتركة ثقيلة بعد ٢٠٠٣، وهذا يعني مقدرتهم على اجتياز امتحان حب الوطن والسعي للسلام المجتمعي والرفاه والاعمار، إن قرروا معاً.
ثانياً: اثبت النصر ان داعش كان يملك في داخله عوامل الخسارة والازالة، وأنه كان ضعيفا وكان يحاول ان يظهر العكس، اعلام الشعب والدولة المضاد والفكر المضاد والهمة المضادة للارهاب والعنف ضرورية كمقدمة لإزالة أي مظهر من مظاهر الإرهاب في مجتمعنا. هنا من الضروري ان نراجع تشريعاتنا واجراءاتنا وحتى ديمقراطيتنا لترسيخ قوانين تكبح بث الكراهية والفرقة في المجتمع، وتساعد على ترسيخ السلم والوئام المجتمعي.
ثالثاً: هناك ضريبة كبيرة دُفعت لتحقيق هذا النصر، ولعل نزوح أبناء المناطق الغربية الى المحافظات الامنة وانتهاك الكثير من الحرمات الجسدية والدينية والتاريخية للإقليات شيء سيبقى في ضمير الامة، فضلاً عن مأساة مجزرة سبايكر وغيرها. نعم العراق دفع الكثير للحصول على النصر، شباب استشهدوا، اطفال يُتموا، وجرحى سيحتاجون رعاية الى زمن غير محدد. من جانب اخر داعش ايضاً استهدف هوية العراقيين وبالتالي الكثير من الإقليات الدينية والاثنية عانت من التشريد والسبي والقتل والاسر. علينا دوماً ان نتذكر التكلفة والضريبة الحقيقية لظهور وسيطرة داعش والإرهاب على أراضينا كي نتعلم منها، ونعد العدد والعدة لعدم تكرارها، ففي المراجعة شجاعة واعتبار ان داعش كيان خارجي فقط شيء غير صحيح.
رابعاً: اثبتت التجربة ان المعادلة العراقية ستبقى تحتاج سعي الدولة للاستحواذ على كل القوة الضرورية لبسط سيطرتها من دون تردد. الإرهاب سيعود ان لم تفرض الدولة وتحصر سيطرتها على كل السلاح ومفردات القوة.
خامساً: وحدة الحدود العراقية هو قرار عراقي لا هوان فيه، وان المجتمع الدولي ودول المنطقة سوف لان تسمح بتقسيم العراق الى دويلات. طبعاً هنا من الضروري ألا نخلط بين رغبة الاخر بالحفاظ على حدودنا فقط وبين رغبتنا بتقوية البلاد وإعادة العافية كاملةً. إعادة قوة العراق شيء مرتبط بالعراقيين أولا واخيراً، اما وحدة الحدود فذلك قرار عراقي ودولي وسيساعد العراقيين على رفع الضغط عنهم بعض الشيء.
سادساً: لم يأتِ النصر من دون اعتراف الأطراف العراقية في حاجتهم الى الاخر، نعم النصر ممكن ان يأتي بعد حين ولكن ستزداد ضريبته وستطول تداعياته ان لم نقر، نحن العراقيين، بحاجتنا للتعاون مع الاخر العراقي والاجنبي. الحواضن كانت موجودة ولكنها أزيلت وستزول عندما يعرف الاخر اننا سوف لا نستغني عنه. وان الدولة، دولة الكل مع اختلاف معتقداتهم المذهبية او العرقية او الايديولوجية. “العراق للكل” شعار يجب ان لا نحول عنه. نعم هناك إدراك في عقلنا الباطني والظاهري اننا سنحتاج الى الاخر لبناء بلادنا، ولكن هل هذا الادراك يعتقد ان على الاخر ان يتنازل، وان ضريبة النصر هو في انصياعه للمنتصر؟ ام اننا كدولة ومجتمع سنتعامل مع الكل على حساب حقوق ومسؤوليات المواطنة فقط.
سابعاً: سيبقى ذلك السيد الكبير في النجف الاشرف مركز استقرار ومرجعية للمجتمع العراقي بشيعته وباطيافه الاخرى. ننتظر منه ارشاداته وقراءاته الدقيقة لما نحن عليه وما يجب ان يكون وما لا يكون. مرجعية زعيم الحوزة في النجف سيد علي السيستاني عكست للكل انها مع الكل وراعية لكل العراقيين باختلاف اجناسهم ومذاهبهم. نعم انه صمام امان وعنصر قوة يحتاج منا ان نسمع له ونستفاد من توجيهاته لأن مرجعيته ابوية ورعوية بعيدة عن الـ(أنا). نعم قد نرغب في دولة مدنية ولكن تلك رغبة سيصعب تحقيقها من دون دور إيجابي ورعوي من المرجعية.
ثامناً: لعل سائل يسأل ان كانت هناك حاجة الى ذلك الحشد الدولي ضد الارهاب، وأسباب كوننا محط انظار الدول الأخرى، خصوصاً الولايات المتحدة الامريكية ومسعاها لجمع حشد دولي عسكري وسياسي وأمني ضد داعش والسلفية الجهادية؟ العالم بدأ يحترم ويقدر حجم التضحيات العراقية، ولكنه ايضاً ينظر الى خريطة المنطقة من منطلق إدارة المخاطر والاحتواء، لاسيما مع توجه الإدارة الاميركية لتقليل تواجدها في المنطقة واعتمادها على بعض دول المنطقة في ادارتها بالوكالة. اذن من الضروري ان نجعل الاخر يعيد حساباته للنظر الينا كوننا فرصة للاستثمار والاستقرار وليس للتوتر ومنبعا للخطورة عليه. اذن لنخطط لتحسين مناخات الاستثمار بشتى الطرق.
تاسعاً: احدى اهم المعطيات التي سوف تعطي دول المنطقة والعالم اطمئنانا على عدم عودة الإرهاب الى العراق متعلقة بأسباب محاربتنا لداعش، وان كانت منطلقاتها وطنية ستراتيجية ام كانت تكتيكية مذهبية طائفية؟ من الضروري ان نعمل على جعل الإرهاب خطرا ستراتيجيا على كل الأطراف العراقية وان تكون هناك قناعة انه عدو لكل الأطراف، لا أن يكون أداة للبعض كآلية للضغط للحصول على مغانم ثانوية لا تساعد على ادامة الاستقرار والسلم المجتمعي. هنا تأتي أهمية وحدة الخطاب العراقي في عمله ومسعاه الى كسب الود العالمي لمساعدته في إعادة اعمار مناطقه المدمرة.
عاشراً:هل لشخص القائد دور محوري في تغيير الوقائع على الأرض لتكون من صالح الحكومة وان كانت مثقلة بضرائب الحرب والاحتلال والتشتت السياسي والمجتمعي؟ قد نختلف في الجواب بخصوص مدى قدرة القائد على تغيير مسار مجتمع معقد مثل العراق نحو الاستقرار، ولكن ما لا شك فيه ان د. حيدر العبادي اعطى صبغة جديدة في إدارة البلاد، وبين للكل ان القائد عنصر محوري، وقدرته على إدارة الازمات او الحروب قدرة لا يستهان بها. الرجل طبع المجتمع على هدوئه وابتعاده عن التشنجات السياسية، وعكس للكل ان الموقع له تأثير كبير ولكن هذا الموقع ايضاً مرهون بطبيعة الشخص الذي يشغله. العراق كان يحتاج ان يتنفس بعض الهواء النقي بعيداً عن تلوث المنطقة وضوضائها، وهذا ما حصل مع إدارة العبادي للحكومة. نعم قد يكون لكل شخص منا ملاحظات هنا او هناك على الحكومة، ولكن كون الحكومة هي حكومة توافقية، فقدرة الشخص اذن على فرض ثقافة جديدة شيء ليس بالسهل، وهذا محل تقدير واحترام بدون شك.
الان وبعد مراجعتنا لأهم عشرة متغيرات وعبر من عراق اليوم، سنقوم في المقال القادم (دروس من بعد اعلان النصر…. عراق اليوم وعراق الغد) بتقييم طبيعة التحديات التي نواجها ومدى قدرة الحكومة والمجتمع على تشخيصها ومعالجتها بإدارة استباقية حكيمة. اللهم احفظ العراق والعراقيين.
لقمان عبد الرحيم الفيلي