مشرق عباس
خمس سنوات مرت حتى الآن على ليلة احتلال الموصل، خمسٌ من الـتأويل والتضليل والتدليس والكذب والتحايل، من الدماء التي شربتها شوارع العراق حتى اختنقت بها، وها نحن نقف على أطلال الموصل ننادي كما نادينا في مثل هذا التاريخ من عام 2014 أن “لن ينام العراقيون تلك الليلة”.
العراقي الذي تصفعه شمس حزيران (يونيو) القاسية ألف مرة، لا يمتلك ترف النوم هانئاً، اعتاد أن يشتهي الشاي الساخن عندما يخبره جسده أن مؤشر درجات الحرارة قارب الـ 50 درجة مئوية.
لفحنا الشاي مراً وساخناً وزقوماً يوم احتلال الموصل، نرجسيتنا التاريخية التي تزدحم بها الكتب… قصائدنا التي نولد ونموت في ظلال أوزانها… نهرينا… آثارنا… سمرة وجوهنا… وحياؤنا… أريقت جميعاً عندما ازدحمت الأرصفة بقمصان العسكر وبساطيلهم، وعندما باتت نجماتهم الهاربة أمام زمرة مسلحين نكتة للتندر.
الليلة التي قرر فيها من قرر أن وقت تقسيم العراق قد حان، وأن الخرائط يمكن أن تنصب لتفصل بين المصائر، كانت بقمرين… الجموع المذهولة والمخدوعة والمصدومة والمترنحة من الموت والشمس والعواصف الرملية والفقر والحواجز الكونكريتية وعواء الحناجر الطائفية، تسمرت أمام قمر الخسوف الأحمر الدامي يستحضر رعب الإبادة، فيما كان القمر بدراً واضحاً لحفل ليلة الذئاب في مجالس حكامهم.
نعم، يكاد المجتمع السياسي العراقي، يتأمل تلك الدموع الغزيرة على الكرامة الوطنية الملقاة على قارعات الطرق بنظرة صماء خاوية… ونعم، كان أولئك المتلبسون بذنب العراق ودمه يعرفون أن ما كان… كان مخططاً أن يكون.
يقول أحدهم وهو مندهش من لحظة الانكسار الشعبي تلك: ألم تخوضوا نكسة صفوان؟ ألم يهرب العسكر أمام خمس دبابات أميركية اخترقت بغداد في السادس من نيسان (أبريل) 2003، لماذا تشعرون بكل هذا الحزن الآن؟ نعم… ومثلك لا يشعر بتراكم الكرب في قلوب الناس، أولئك البسطاء الذين سلّموا جيلاً بعد جيل مصائرهم بيد قتلة وسراق وموبوئين وكاذبين.
و… نعم، كان مجتمع السياسة يعرف أن الموصل سيتم احتلالها، ليس في الثامن من حزيران، بل في الأول من كانون الثاني (يناير) من ذلك العام، عندما اُحتلت الفلوجة وتم غض الطرف عنها، وإجراء انتخابات شكلية ترمم الصورة القبيحة، وكان يتداول يومياً خيار التقسيم، لأن الجيران لديهم نظرياتهم حول مرحلة ما بعد الكارثة.
محاولات محو العراق من الخريطة، لم يكن تنظيم “داعش” الإرهابي إلا أداة من أدواتها، ومع أن أحداً لم يُسق إلى الحتوف عقوبة لجريرة الموصل، فإن لا أحد سيحاكم على فشل الدولة… نهبها… نهش جسدها في حفلة المفترسين، قبل الدفع بما تبقى منها إلى ضباع البغدادي.
من الصعب تخيل حجم التزييف الذي يغلف حياة العراقيين، كربهم الجماعي يدفعهم إلى تصديق ما لا يمكن تصديقه… مخاوفهم المتراكمة تجبرهم على الإنكار… فتح شوارع بغداد يغريهم بأن المحنة عدت… الأكاذيب المتكدسة في أفقهم تعيق رؤية ساحة التحرير.
ولكن لا شيء يمضي… فالمرتكبون استسهلوا الارتكاب… يستبدل الزعماء ربطات عنقهم استعداداً لمهرجان قضم الفريسة التي كادت بمعجزة تنجو… يعير كبار الضباط نجماتهم ونسورهم وسيوفهم ونياشينهم لأشخاص لم يجلسوا في صف الأركان ساعة واحدة، ويورث البغدادي عمامته السوداء وساعة يده لمجرم جديد.
لا شيء يمضي، لأن ليلة العراق الطويلة ترفض أن تنتهي… ترفض أن تستسلم لإرادة الجموع بفجر دولة، وشرطي مرور، واشارة ضوئية، وعمل نزيه، وعائلة حانية، وسلام عادل يورثه الآباء الذين تركت الحروب أوشاماً على جباههم إلى أبنائهم.
خمس سنوات مرت… خمسٌ من الأوجاع المشرعة، والقلوب المكلومة، ونواح المقابر، تزاحم حياتنا وتحتل وجودنا، خمس سنوات لم ينم فيها العراقيون… يحصون ضحاياهم ويتداولون قرار الاغتراب، ويسألون صانع الشاي الأسود المر المتسمر في مكانه في شارع الرشيد منذ ألف عام سؤالهم المعتاد: “هل هناك أمل؟” فيرفع رأسه بصمت وجزع، نحو الأفق المغلق بتلال الزبالة… فثمة خلف المزابل حروب دائمة.