قبيل أربعة أيام من القمة المنتظرة بين الرئيسين الأميركي والتركي، صعّدت أنقرة حرب التسريبات في قضية جمال خاشقجي، كاشفة أن واشنطن باتت على علم بالمستوى الذي صدر عنه أمر الاغتيال. وفي ظلّ تصاعد الضغوط التركية، تنصرف السعودية إلى محاولة تحسين صورتها، وتدارك الضرر الذي لحِق بها، حتى بات يشكّل تهديداً لمستقبل محمد بن سلمان
لم تشأ أنقرة أن تمرّ انتخابات التجديد النصفي الأميركية من دون أن «تشوّش» عليها بمزيد من التسريبات المتصلة بحادثة اغتيال الصحافي السعودي جمال خاشقجي. للمرة الأولى منذ زيارة مديرة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إي)، جينا هاسبل، لتركيا، تحدثت الأخيرة ـــ بنحو غير رسمي ـــ عن طبيعة الأدلة التي اطلعت عليها هاسبل، مؤكدة ما كانت قد أوحت به التعليقات الأميركية عقب الزيارة. هذه المعلومات، مضافة إلى حزمة أوراق طرحها الأتراك توالياً، سيحملها رئيسهم رجب طيب أردوغان إلى نظيره الأميركي أواخر الأسبوع الجاري، حيث يُفترض أن تتكشّف مآلات قضية خاشقجي. وفي الانتظار، يواصل الملك السعودي ونجله محاولاتهما لتحصين العهد الجديد في مواجهة العاصفة، على رغم استجابتهما لما يبدو أنها ضغوط غربية في اتجاه تخفيف غلواء الأجندة المحلية لمحمد بن سلمان.
وأفاد مصدر تركي، أمس، بأن الأدلة التي اطلعت عليها هاسبل أثناء زيارتها تركيا في الـ23 من الشهر الماضي تثبت أن «الاغتيال حصل بأوامر من مستويات سعودية عليا»، مضيفاً أن المسؤولة الأميركية «غادرت تركيا وهي على قناعة تامة بتفاصيل الجريمة». تصريح يصبّ في الاتجاه نفسه للانطباع الذي خلّفته تصريحات الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، عقب لقائه هاسبل، حيث قال إن «الخطة كانت سيئة جداً، ونُفذت بنحو فاشل، وجرى التستر عليها بأسوأ عملية تغطية في التاريخ»، ما أوحى بأنه باتت لدى ترامب معلومات عن ضلوع وليّ العهد السعودي في الجريمة. اللافت تشديد المصدر نفسه على أن تلك المعلومات «تعطي تصوّراً كاملاً للجريمة وما سبقها من إعداد»، في توصيف ينمّ عن ثقة كبيرة لدى أنقرة بالأدلة التي تتسلّح بها. ولعلّ ذلك كفيل بتفسير قول المصدر إن لقاء أردوغان وترامب، المنتظر السبت المقبل في باريس، «سيكون محطة أساسية في الموقف الأميركي من جريمة خاشقجي». وهو تقدير يعبّر عن رغبة تركية في دفع واشنطن نحو تصعيد الموقف ضد ابن سلمان، لكنه لا يغلق الباب في الوقت عينه على «تفاوض» أميركي ـــ تركي يمكن أن يفضي إلى «حلول وسط»، خصوصاً أن عبارة «مستويات عليا» ـــ على خطورتها بالنسبة إلى ولي العهد ـــ تظلّ قابلة للمطمطة وحملها على تفسيرات مختلفة.
هذه العبارة أعاد وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، أمس، العزف عليها، في ما قد يكون تصعيداً للضغوط على واشنطن والرياض بهدف انتزاع مكاسب وتنازلات، أو تجلّياً لتطلّع حقيقي وجدّي لدى أنقرة إلى عملية تغييرية تتجاوز تقليم أظفار ابن سلمان. وتساءل أوغلو، في تصريحات من طوكيو، عن «الأشخاص الـ15 الذي أتوا إلى إسطنبول، مِمَّن تلقّوا الأوامر؟»، مُجدداً قول رئيسه إن الملك سلمان لم يصدر أي تعليمات بقتل خاشقجي، ومشدداً في الوقت نفسه على أن «القتلة تلقّوا تعليمات بذلك، ولا يمكنهم أن يأتوا ويقتلوا مواطناً سعودياً دون أخذ إذن من أحد». ويُتوقّع أن يشكّل ارتفاع التحفّظ التركي عن الجهر بطبيعة الأدلة التي في حوزة أنقرة، وتلويح الأخيرة بكشف تلك المعطيات للرأي العام، عنصر إحراج إضافياً لإدارة ترامب، خصوصاً إذا ما أدت نتائج الانتخابات إلى إضعاف موقف الرئيس، مع ما يعنيه الأمر من انعكاسات محتملة على قضية خاشقجي.
وحتى تتبيّن تلك النتائج، ويخرج الدخان الأبيض من قمة ترامب ـــ أردوغان، تجد السعودية نفسها مضطرة إلى إعادة لملمة أوراقها، وتصدير صورة من القوة والسيطرة، على رغم إقدامها على خطوات تراجعية من قبيل إطلاق سراح الأمير خالد بن طلال، الذي يُتوقّع أن يلحقه إلى «الحرية» أمراء آخرون من «معتقلي الريتز»، بهدف «تهدئة الغضب الدولي»، وفقاً لما ذكرته صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية. وللمرة الأولى منذ تولّيه العرش قبل أكثر من 3 سنوات، بدأ الملك سلمان من محافظة القصيم (وسط) جولة داخلية، تستهدف «الوقوف على أحوال المواطنين، وتدشين مشاريع تنموية مهمة»، بحسب صحيفة «عكاظ» السعودية. وتزامن انطلاق تلك الجولة غير المسبوقة مع وضع ابن سلمان الحجر الأساس لما يُفترض أن يكون أول مفاعل نووي للأبحاث في المملكة، في مدينة عبد العزيز للعلوم والتقنية.