حين تُطلّ الفرانكفونية برأسها …كتب رياض الفرطوسي

لم تعد اللغة مجرد وسيلة للتفاهم، بل أصبحت في زمن العولمة نافذة نفوذ، وأداة لتشكيل العقول، وخيطاً غير مرئيّاً يربط الشعوب بثقافات لم تعد بعيدة عنها مهما بعدت الجغرافيا. هذا ما يجعلنا نقف طويلاً أمام مشهد تمدّد الفرانكفونية، لا بوصفها حركة لغوية فحسب، بل باعتبارها كياناً ثقافياً، حضارياً، وربما سياسياً، يتسلل بخفة عبر المناهج والندوات، بين صفحات الكتب وشاشات التلفاز، وحتى في الخطاب الرسمي لبعض النخب.
الفرانكفونية ليست مجرد رابطة لغوية تجمع من يتحدثون الفرنسية، بل هي انعكاس لتاريخ طويل، مركب، تتداخل فيه مطامح القوة مع أحلام الثقافة. والحديث عنها في العراق لا يبدو خارج السياق، بل هو اليوم سؤال مشروع يطرح نفسه وسط بوادر اهتمام رسمي وشعبي بالثقافة الفرنسية، من خلال افتتاح مراكز لتعليم اللغة، وبرامج تبادل ثقافي وأكاديمي، وفعاليات تحمل توقيع “الفرانكوفونية”.
لكن، ما الذي يدفع فرنسا إلى التقرّب من فضاء مثل العراق، الذي لم يكن ضمن المدار التقليدي للفرانكفونية؟ وهل نحن أمام انفتاح ثقافي عابر، أم أمام محاولة لرسم حدود جديدة لنفوذ ناعم يتسلل من باب اللغة؟ في الحقيقة، فإن فرنسا، بعد أن أفَل نجمها في إفريقيا، وبدأ أبناء تلك القارة يكشفون الوجه الحقيقي لإرثها الاستعماري، راحت تبحث عن مساحات جديدة لاستعادة حضورها الثقافي. لم تعد إفريقيا ذلك الحقل المفتوح، فاختارت فرنسا أن تفتح نوافذها نحو دول أخرى لم تكن ضمن المدار الفرانكفوني سابقاً، مثل العراق. وهنا تبرز أسئلة عن الغاية من هذا الحضور، وعن جدواه، وعن ثمنه الرمزي والثقافي.
يرى بعض المحللين أن مشروع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لا يقتصر على تحريك الاقتصاد في الشرق الأوسط، بل يتجاوزه إلى إنشاء فضاء ثقافي – أشبه بنادٍ فرنسي – تمارس فيه باريس قوتها الناعمة، وتُعيد تموضعها في عالم يتغير بسرعة. إنه سعي لإعادة تشكيل “الهالة الفرنسية” في أماكن كانت ذات يوم بعيدة عن نفوذها المباشر. وفي سبيل ذلك، تُراهن فرنسا على سلاحها الأكثر نعومة وتأثيرًا: اللغة والثقافة.
فاللغة الفرنسية في بعض الدول، ومنها دول عربية وإفريقية، لم تبرح موقعها في مؤسسات الإدارة، وفي الإعلام، وفي الجامعات. لا تزال الفرنسية تهمس في آذان القراء عبر مجلات وصحف، وتطلّ من شاشات فضائية، وتُبثّ عبر محطات إذاعية. هذا الحضور، وإن بدا ثقافياً، إلا أنه في جوهره يعكس مشهدًا من القوة الرمزية التي تُمارس بهدوء ودهاء.
المفكر المصري محمد حسنين هيكل، نظر إلى الفرانكفونية بريبة، واعتبرها مشروعاً غريباً لا يعكس هوية الأمة ولا أمنها ولا مصلحتها، بل هو – كما قال – “منظمة قامت بها فرنسا وتُدار بأدواتها وتُوجَّه بأجهزتها”. أما غسان سلامة، وزير الثقافة اللبناني الأسبق، فكان أكثر دقة في تشخيصه عندما وصفها بأنها “موسيقى لغوية تسعى لتكون جزءاً من الجوقة العالمية”، بينما اختزلها المترجم بشير السباعي بأنها “الصوت الفرنسي”، لا أكثر.
اللافت أن هذا الصوت الفرنسي لا يزال يجد له صدى واسعاً في بلدان كثيرة، بعضها لا تزال الفرنسية فيها اللغة الرسمية، وبعضها الآخر تعتبرها لغة الطبقات المثقفة والدوائر الأكاديمية. وهذا ما يجعل من الفرانكفونية مشروعاً مفتوحاً على أكثر من وجه، فهي من جهة بوابة إلى الأدب الفرنسي الرفيع، ومن جهة أخرى وسيلة ناعمة لإعادة رسم الخرائط الثقافية.
وراء هذه الأناقة الثقافية، تكمن منظمة دولية تُدير خيوط المشهد من بعيد: المنظمة الدولية للفرانكفونية، التي تضم اليوم أكثر من خمسين دولة، وتدير شبكة واسعة من المؤسسات التعليمية والثقافية، بدءًا من الوكالة الجامعية الفرانكفونية، وصولاً إلى جامعة سنجور في الإسكندرية، والقناة الفضائية TV5 التي تبث إلى مئات الملايين.
ميزانية هذه المنظمة تتجاوز 150 مليون يورو سنوياً، ويبلغ عدد الناطقين بالفرنسية في دولها حوالي 500 مليون، منهم 175 مليوناً يتحدثون بها كلغة أولى. إنها أرقام تتحدث عن ذاتها، وتكشف بوضوح عن حجم المشروع، وعن طموح فرنسا إلى أن تظل لغتها حية، نافذة، مؤثرة، حتى خارج حدودها الجغرافية.
وإلى جانب هذه المؤسسات، تدعم فرنسا أكثر من 1060 مركزاً ثقافياً موزعين على 140 دولة، تقدم دروساً في اللغة الفرنسية إلى أكثر من 370 ألف طالب. كما تنخرط هذه المراكز في أنشطة ثقافية متنوعة: معارض فنية، عروض سينمائية، ترجمة أدبية متبادلة، إصدار مطبوعات، ورصد للثقافات المحلية وتوثيقها ضمن سرديات عالمية. إنها شبكة متقنة لربط الشعوب بروح فرنسا، لا بجغرافيتها فقط.
ومن بين هذه الفعاليات، برز مؤخراً نشاط لافت في العاصمة بغداد، حيث شهد المركز الثقافي الفرنسي بالتعاون مع السفارة الفرنسية معرضاً للفنان الفرنسي ليون ديبوا بعنوان “البحث عن الأمير الصغير”. استلهم المعرض روح أنطوان دو سانت-إكزوبيري، وقدم رؤيته من خلال أسلوب انطباعي جمع بين التشكيل البصري والوثيقة، ليُعيد تمثيل رحلة الأمير الصغير من فرنسا إلى العراق، تلك الرحلة التي انتهت بتحطم طائرته في الصحراء إثر غارة جوية عام 1935، بعد نجاته بثلاثة أيام. جسّد المعرض الحادثة بتكوينات إضاءة نافذة، وبُنى جمالية حملت الذاكرة الفرنسية إلى فضاء بغداد في مشهدية فنية نابضة.
وفي العراق، بدأنا نرى مراكز ثقافية فرنسية تقدّم دروساً في اللغة، وتستضيف عروضاً فنية وسينمائية، وتروج لفكرة التبادل الثقافي. هل هي محض أنشطة تعليمية؟ أم أننا أمام استراتيجية طويلة الأمد لإعادة تشكيل المزاج الثقافي والفكري عند الجيل الجديد؟
الفرانكفونية – على الأقل في سرديتها الرسمية – تدّعي دعم التنوع الثقافي، وتشجع على الحوار بين الحضارات، وتسعى لتعزيز قيم حقوق الإنسان والتقدم العلمي. وهي أهداف نبيلة لا شك، لكنها تصبح مثار شك حين ترتبط بثقل تاريخ استعماري لم تُغلق صفحاته بعد. ففي إفريقيا مثلًا، وبعد عقود من الاستقلال، لا تزال الفرنسية تحكم التعليم والإدارة، وتُستخدم كوسيلة للتمايز الطبقي، بل تُفرض أحياناً بوصفها لغة “الفرصة” الوحيدة للترقي.
فهل يسير العراق في هذا الطريق؟ وهل نحن في حاجة فعلية إلى لغة جديدة لنتنفس بها ثقافة العالم، أم أننا نملك من التنوع والثراء ما يُغنينا عن استيراد نموذج جاهز؟ إن الانفتاح على اللغات أمر محمود، وتعلم الفرنسية قد يُفتح أبواباً واسعة أمام الشباب، لكن يجب أن يتم ذلك من موقع السيادة، لا التبعية، ومن بوابة الاختيار، لا التلقين.
ما نحتاجه اليوم ليس لغة جديدة تحكمنا من الخارج، بل وعياً عميقًا يُفرّق بين التفاعل الثقافي وبين الهيمنة الرمزية. فالفرانكفونية ليست شراً مطلقًا، لكنها أيضاً ليست خيراً خالصاً. إنها منطقة رمادية، تحتاج إلى من يُعيد تعريفها في ضوء مصالحه الوطنية، لا في ظل سرديات الآخر.
وفي هذا الإطار، تبدو الحاجة إلى ما يمكن تسميته بـ”الأمن الثقافي” ضرورة لا ترفاً. إذ كيف يمكننا حماية وعي شبابنا من الانبهار الأجوف بثقافة الآخر، حين تُقدَّم له على أنها طريق الخلاص والفرص؟ كثير من شبابنا باتوا يتأثرون بثقافات الغرب في الملبس، والأفلام، والسفرات، وحتى الندوات التي تنظمها هذه السفارات لبعض من يقع عليهم الاختيار بعناية. وما يبدو تفاعلاً ثقافياً بريئاً قد يكون في جوهره عملية اصطفاء ناعمة لإعادة تشكيل النخبة الجديدة، بل وربما الوعي الجديد.
وفي خضم هذا كله، يطل السؤال الكبير من قلب المشهد العراقي: ماذا نريد من علاقتنا بالفرانكفونية؟ هل نراها جسراً للحوار والانفتاح، أم نافذة لنفوذ ثقافي ناعم يعيد تشكيل وعينا الجمعي؟ وهل نحن مستعدون لأن نحمل لغتنا وهويتنا إلى طاولة التعدد، أم أننا سنذوب فيها، كما ذابت شعوب كثيرة قبلاً؟
الجواب، كما يبدو، ليس في يد الفرانكفونية، بل في يدنا نحن. نحن الذين نملك أن نُعيد رسم العلاقة بما يخدم ثقافتنا، ويفتح أبواب التعارف لا التبعية، ويمنح لأبنائنا لغات العالم، دون أن ينزع عنهم لغتهم الأولى، ولا أن يحجب عن أعينهم مرآة هويتهم الأصلية.