وكالة اخبار وطن
وكالة عراقية مستقلة

حناجر للإيجار … رياض الفرطوسي

  • 6 مشاهدة
  • مايو 06, 2025

 

في هذا الزمن السياسي المتدلّي من حبال المساومة، لم تعد الكلمات تُصاغ للمعنى، بل تُعدّ وتُرتّب كما تُرتّب حقائب السفر قبل رحلةٍ مؤقتة. الحناجر تُستأجر كما تُستأجر الأرصفة، والتصريحات تُفصّل كما تُفصّل بدلات الظهور الإعلامي: حسب المقاس، والموسم، ومدى صخب المزايدة.

 

ثمة من لا يحيا إلا في العاصفة، لا يتنفس إلا في جوّ التوتر، يقتات على بلبلة العقول، ويزدهر كلما اشتد الخلاف. إنه ذلك النوع من الكائنات السياسية الذي يختبئ خلف المايكروفون ليصرخ، لا ليقنع. يزمجر لا ليصحّح، بل ليُربك. يقفز من خطاب إلى نقيضه كما يقفز بهلوان من منصة إلى أخرى، دون أن يلتفت إلى شرف الفكرة أو قلق الوطن أو وجع الناس.

 

هؤلاء لا يسألون عن مصير البلاد، بل عن عدد المتابعين بعد كل تصريح. لا يعنيهم اتزان المعنى، بل تفاعل الجمهور. إنهم تجار أزمات محترفون، يفتعلون الحرائق ثم يعقدون المؤتمرات باسم الإطفاء، يحرّضون الشارع ثم يطالبون بالهدوء، يزرعون الشك ثم يدّعون حماية الثقة. كل ما يفعلونه محكوم بمنطق السوق: العرض والطلب، ولا يُعرض شيء أكثر ربحاً من غضبٍ سياسي مدفوع الثمن.

 

وحين تُفتح أبواب المنافسة، ترى نفس الوجوه تعود إلينا من أرشيف الإخفاق، تُلمّع أقوالها، وتستعير لباساً جديداً، وتنتحل صورة المخلّص. لكنها لا تأتي بشيء سوى الوعد المستعمل، والشعار المجعّد، والخطاب الذي شرب عليه السأم نخب الملل. لا مشروع، لا رؤية، لا بنية، فقط حملة مرتبة لإعادة تدوير الكذب.

 

هؤلاء لا يعتذرون عن الأمس، لأنهم لا يعترفون أنه كان خطأ. هم لا يرون في التناقض جرحاً أخلاقياً، بل فرصة. لا يستحي أحدهم من أن يذمّ من قدّسه بالأمس، ويمجّد من لعنه في الأمس الآخر. إنهم محترفو الإلغاء: يلغون ما قالوه، ويلغون من قالوا له، ثم يطلبون منا أن نصدّقهم كل مرة بنفس البرود.

 

والأنكى من كل هذا أن العقول التي يفترض أن تُحاسب، استسلمت لبلادة التبرير. الناس تمضي خلف الشعارات لا خلف التحليل، وتنقاد للعبارات الرنانة لا للمواقف المتماسكة. وهكذا، يُولد الزيف من رحم التصفيق، وتُختطف الذاكرة من فم الهتاف.

 

لم تعد السياسة عند هؤلاء مسؤولية، بل تمرين على تقمّص الأدوار. في الصباح مدافع عن الفقراء، وفي المساء صديق لأباطرة الفساد. في المؤتمر وحدوي، وفي الجلسة المغلقة طائفي متطرّف. في الشاشة عقلاني متزن، وفي الكواليس لاعب قذر لا يتردد في بيع صوته لمن يدفع أكثر.

 

والمشكلة ليست فقط في وجودهم، بل في استمرارهم. في قبولهم من جمهور سئم، لكنه لم يتقن بعد فنّ الرفض. في شعب أعيته الخديعة، لكنه ما زال يسير خلف من يحسنون الكذب أكثر. في ذاكرة مثقوبة تسمح للمزوّر أن يعود بوجه جديد كل موسم، وتمنح له صوتاً جديداً، وفرصة أخرى للتضليل.

 

علينا أن نعترف: المشكلة أعمق من اسم نائب أو وجه سياسي. إنها في البنية التي سمحت لحنجرة أن تُستأجر، ولحقيقة أن تُكسر، ولعقل أن يُختزل في رغبة. في هذا السقوط الحرّ للمعايير، تصبح الكلمة أرخص من الطموح، والصوت أضعف من الضجيج، والحقيقة أهون من الرغبة في أن تُقال فقط عندما تتوافق مع مصلحتنا.

 

وحتى يستفيق الضمير الجمعي، سيبقى هؤلاء يتقافزون في ساحة الصخب، يحرّكون الدمى بكلماتهم المدفوعة، ويصرخون كما يشاؤون، لأن الحناجر الرخيصة لا تحتاج سوى لمنصة وصدى.

أخبار مشابهة

حفل أسطوري لإطلاق مشروع “مدينة الورد” يعيد لبغداد مجدها

 عاشت العاصمة بغداد مساء الإثنين الموافق 5 مايو، أجواءً استثنائية خلال الحفل الأسطوري الذي...

من غياب الحياء إلى الانهيار الأخلاقي… من يُنقذ الأجيال؟

 نورا المرشدي في كل أمة، هناك قيم تُشكّل عمودها الفقري، تحفظ توازنها وتمنحها هويتها...