قراءة أنثروبولوجية في بنية النظام السياسي العراقي   ناجي الغزي/ كاتب سياسي  

    *مقدمة*

    الأنثروبولوجيا هو العلم الذي يختص بدراسة سلوك الإنسان في الماضي والحاضر. ويرتبط علم الاجتماع بالأنثروبولوجيا ارتباط وثيق، لأنه يتناول البناء الاجتماعي والوظائف الاجتماعية للأفراد والجماعات وارتباطهم بالبيئة والدين والتقاليد والعادات والنظم السياسية..

    والأنثروبولوجيا السياسية هي فرع من الأنثروبولوجيا تهتم بدراسة الأنظمة السياسية والسلطة في المجتمعات البشرية. وكيفية تنافس الأشخاص على السلطة وتوظيفها لحكم البلاد, كما اهتمت بدراسة بنية النظم السياسية باعتبارها جزء من بنية المجتمعات وهذه الدراسات قامت بالتركيز على المجتمعات الأصلية والقبلية وروابط القرابة الاجتماعية فيها كمفتاح لفهم النظام السياسي في المجتمعات التاريخية. وقد تطورت هذا الفرع بشكل كبير خلال القرن العشرين، الذي ركز على فهم العلاقة بين السلطة والمجتمع والمواطنين.

     

     

    *الأنثروبولوجيا السياسية المعاصرة*

    أما الأنثروبولوجيا السياسية المعاصرة فقد تطورت الى أشكال جديدة من الجدالات في الانثروبولوجيا السياسية حيث بدأت مع أفكار ونظريات ماكس غولكمان عام 1949 والتي عرفت ( بمدرسة مانشستر) الذي ركز فيها على (دراسة العمليات الاجتماعية وتحليل الأنظمة والبنى السياسية المبنية على الاستقرار النسبي. والتي اعتبر فيها ان الصراعات السياسية ساهمت في تأسيس النظام الاجتماعي والسياسي والحفاظ على استقرار النظم السياسية, وذلك من خلال تأسيس وإعادة وانشاء العلاقات والروابط المتداخلة بين الفاعلين الاجتماعيين والسياسيين) {1}

    وتعتمد الأنثروبولوجيا السياسية المعاصرة على مفاهيم مثل الهوية والانتماء والسلطة والحرية والعدالة، وتهدف إلى فهم كيفية تشكل هذه المفاهيم وتأثيرها على الحياة السياسية والاجتماعية. ومن أهم المساهمات التي قدمتها الأنثروبولوجيا السياسية المعاصرة هي تحليل العلاقات بين الدولة والمجتمع، وكيفية تأثير السياسة على الحياة اليومية للناس. كما تركز هذا الفرع أيضًا على دراسة العنف السياسي والصراعات والحروب، وتحليل أسبابها ونتائجها على المستوى الشخصي والجماعي, لا نريد الاستغراق في المدارس والآراء السياسية وتفاصيل المصطلح تاريخيا, بقدر ما نود طرحه من خلال هذا التعريف هو قراءة أنثروبولوجية لبنية النظام السياسي العراقي لقلة الانشغالات في هذا المجال.

     

    *التغييرات في النظام السياسي العراقي*

    ومن هنا ننطلق في القراءة الممكنة للأنثروبولوجيا السياسية لواقع النظام السياسي في العراق لضمان رؤية محايدة للموضوع واسقاطاته على تشكيل بنية النظام السياسي عبر تحليل موضوعي صرف يعتمد الانسان كوحدة أساسية في البناء السياسي للمجتمع وعلى حقائق واحداث مؤثرة في الواقع رسمت ملامحها بشكل ديناميكي على بنية النظام السياسي.

    ومن خلال القراءة التي تدرس المجتمع ووظائفه الحيوية ونزعاته الاجتماعية وصراعاته وتغيراته السياسية. نجد ان التحولات السياسية والاجتماعية العميقة التي شهدها المجتمع العراقي لأكثر من نصف قرن مضت من الاحتقان والكبت السياسي والقتل والتهجير والحروب العبثية والحصار أفضت الى تغيير النظام السياسي عام 2003..

    وما بعد 2003 حدث ارباك وارتباك في طبيعة العلاقة بين النظام السياسي والمجتمع وتأثيره على الفاعلين السياسيين والاجتماعيين، وسنطرح في تلك القراءة طبيعة الصراع السياسي الذي جعل النظام السياسي امام تحدي كبير, وعودة الى نظرية ماكس غولكمان هل فعلا ان الصراع يساهم في استقرار النظام السياسي.؟؟

    المجتمع العراقي مجتمع موغل في عمق التاريخ الحضاري ضمن جغرافية تثير شهية الدول الاستعمارية. وبلا شك ان العراق كبلد تأثر وأثر في الحضارات الصراعات والثورات والاستعمار الذي عبر ومر على ترابه ولكنه بقى متماسك في صيرورة الحياة والتاريخ لأنه من المجتمعات التي تنظمها النواميس الاجتماعية، لكونه يعتمد على العلاقات والنسب والأعراف والقيم الروحية والدينية والسنن العشائرية وتراكم القيم والتراث، وهذه المفردات منحته الاستمرارية في البقاء.

     

    والقراءة في مسارات الانثروبولوجيا السياسية تكشف لنا السبل المرتبطة بعلاقات الفرد السياسية داخل المجتمع العراقي، وتشق لنا الطريق بمعرفة وإظهار تكوينات ومؤسسات ايدولوجية تعظم فيها السلطة كوحدة قياس تمارس على الفرد وتحدد سلوكه وتكبح حريته كالسلطة الابوية داخل الاسرة مرورا بالمدرسة وبسلطة العشيرة والقبيلة التي تؤثر جميعها على سلوك الفرد الاجتماعية والسياسية, باعتبار الانسان كائن سياسي كما عرفه الفيلسوف اليوناني (أرسطو)

     

    والنظام السياسي القائم في العراق ضمن قراءتنا الموضوعية لايزال يعمل بحدود الأنثروبولوجيا السياسية التقليدية التي تقوم على حدود الأغلبية والأقلية للمكونات السياسية في رسم موازين السلطة ودور زعماء القبائل ورجال الدين وتأثيرهم في منظومة الحكم حيث تنقسم السلطات الحاكمة في النظام السياسي الى قوى طائفية واثنية وقومية وبهذه المعادلة تفقد الدولة اخلاقها السياسية في المنظور السياسي للدولة الحديثة. عكس المجتمعات الحديثة التي جعلت فكرة القرابة القبيلة والانحياز الديني أقل صلة بالتكوين السياسي للنظام السياسي.

     

    وتتميز الدراسات الأنثروبولوجية في بنية النظام السياسي العراقي بتعددية الثقافات والتجارب الاجتماعية المختلفة التي يمكن توظيفها لفهم تشكيل النظام السياسي في العراق. كما تعد دراسة الواقع السياسي العراقي واحدة من أكثر المواضيع تعقيداً في الأنثروبولوجيا السياسية، لأن البلد قد مر بعدد كبير من الصراعات السياسية والاجتماعية والاقتصادية على مدى عقود عديدة.

     

    كما ان القوى السياسية التي شكلت النظام السياسي جاءت نتيجة لسنوات القهر والتهميش والبطش السياسي الذي طال مكونات اجتماعية معينة كالشيعة والاكراد حصرا وأحزاب إسلامية سنية، مما شكلت تلك المكونات الاجتماعية تنظيمات وأحزاب سياسية ساهمت بسقوط النظام, وجاءت على انقاضه لتشكل السلطة كأحد أولوياتها السياسية, دون النظر الى بناء الدولة ومفهومها السياسي والوظيفي.

    ويمكننا القول إن بنية النظام السياسي العراقي تعتمد على مكونات اجتماعية متعددة تنشأ عنها العديد من المشكلات السياسية التي تواجه البلد. كالصراعات العرقية والدينية، فضلاً عن توتر العلاقات بين الحكومة المركزية والإقليم.

     

    وبالرغم من التحديات التي تواجه النظام السياسي العراقي، فإنه يمكن القول إن هذا النظام يعتمد على تفاعل وتماسك بين السلطات المحلية والمركزية، فضلاً عن التحالفات بين المكونات السياسية. ومن هنا نجد ان الأنثروبولوجيا السياسية تلعب دوراً مهماً في دراسة هذا التفاعل وتوفير الحلول البناءة لحل المشكلات السياسية والاجتماعية التي تواجه النظام السياسي.

     

    لكون تركيبة النظام السياسي كما عرفت بالفسيفساء الاجتماعية والسياسية كأمر واقع للمجتمع المتنوع التي فرضه الواقع السياسي، وكرست وجوده الأحزاب كأيدولوجيات سياسية, ورسمت ملامحه في بنود الدستور, وفي الممارسات السياسية لجميع الأنشطة التي مرت خلال عمر النظام السياسي القائم. وهذه التكوينات السياسية تحالفت ضمن طقوس سياسية تحدد اوزانها الانتخابات التشريعية لكل دورة انتخابية على ان تبقى متماسكة وتدور في فلك النظام السياسي.

     

    وهذا التماسك جاء ضمن عملية التخادم السياسي الذي يؤَمن فيها كل طرف جبهته ويحقق أهدافه السياسية. لان تركيبة المجتمع العراقي تتكون من جماعات فرعية متداخلة ومتماسكة تؤطرها المصالح الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. ولا يرغب أي طرف ان يفقد هويته الفرعية او يتنازل عن عنوانه القومي او الطائفي وينصهر في تمثيل مركزي قوي للدول العراقية بالمنظور الحديث, وذلك بسبب أزمة الثقة التي خلفتها الأنظمة السياسية الحاكمة وايدولوجياتها العنصرية التي ترتكز على سياسة الاقصاء والقهر والتهميش.

     

    فضلا عن ذلك هناك أسباب تساهم في تماسك النظام السياسي منها انعدام الطبقة الوسطى وغياب تأثيرها في المجتمع، وضعف الحركات السياسية لقوى المجتمع المدني.. وهذا الفهم التقليدي للأنثروبولوجيا السياسية ودور الطائفية والاثنية والقبلية ضمن إطار النظام السياسي عطل حركة المجتمع المدني وتأخر انتقال الدولة من المحلية الضيقة الى نظام إقليمي يسعى الى البحث عن هوية سياسية واقتصادية وجودية للعبور نحو العالم.

     

    لان الديمقراطية الحديثة ونظامها السياسي البرلماني والقانوني لا تنسجم مع استعمال عنصر القبيلة والسيطرة بالطائفة او بالقومية. وبهذا الطرح التقليدي للأنثروبولوجيا السياسية لموضوعة السلطة والهيمنة عليها من قبل التنظيمات السياسية بعيدة عن التغيير والتحولات في الوحدات السياسية لبنية الدولة ستؤدي حتما الى تخلف الثقافة السياسية والاقتصادية لمفهوم الدولة الحديثة, باعتبارها الجهاز القائم على تدبير الشأن العام للمجتمع.

     

    المصادر

    1- موقع الضفة الثالثة / ” الأنثروبولوجيا” ومدارسها الأربع/ عمار فارس

    شاركـنـا !
    
    التعليقات مغلقة.
    أخبار الساعة